إن الأصل أن «كل متَّهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي». وهذه القاعدة يطلق عليها في القوانين مبدأ قريبة البراءة. ولتلك قاعدة أساس دستورية. ولذا لا يجوز الحرمان من الحرية أو تقييدها إلاّ بعقوبة. ثم لا تجوز العقوبة إلاّ من بعد المحاكمة وصدور حكم مبرم يقضي بها. ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانون. لذلك يفترض في الاجراات الجزائية أن يكون المتهم أو المشتبه فيه حراً طليقاً. غير أن لكل قاعدة إستثنا تفرضه مقتضيات المصلحة العامة والتي يغلب شأنها على المصلحة التي أملت القاعدة.
ولهذا يمكن للمتهم أثناء التحقيق التوجه بطلب الإخلاء سواء أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو أمام المحكمة.
ما معنى إخلاء السبيل ؟
إخلاء السبيل في مرحلتي التحقيق والمحاكمة. هو الإفراج عن المتهم الموقوف والمتابع بملاحقة جزائية. وإعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل التوقيف. أو إرجاع الأمور إلى طبيعتها، أي إعادة الحق بالحرية إلى صاحبه.
والحرية حق طبيعي أكدته الدساتير الحديثة والاتفاقيات الدولية. ومن بينها الدستور المصري. الذي ينص أن: «الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم». لذا لا يجوز حجب هذا الحق ما لم تثبت إساءة استعماله في المجتمع. بارتكاب فعل جرمي يعاقب عليه القانون. بإحدى العقوبات المانعة للحرية كالأشغال الشاقة أو الاعتقال أو الحبس. أو بعقوبة مقيدة للحرية. أصلية كانت أو فرعية. كالإقامة الجبرية أو المنع من الإقامة. أو بإحدى التدابير الاحترازية كالحجز أو العزل أو الحرية المراقبة.
فالتوقيف لا يعني ايقاع العقوبة على الشخص. بل التوقيف يقع قبل العقوبة أو قبل الحكم، وهو تدبير احتياطي، ويطلق عليه في بعض القوانين بلفظ الاعتقال الاحتياطي. لذلك فهو تدبير مؤقت. إلى حين صدور الحكم المنهي للقضية. أو يمكن إخلاء سبيله في مرحلة التحقيق، أو في مرحلة المحاكمة، أو أمام محكمة النقض. وهو ما سنحاول الحديث عنه في هذه المقالة.
حالات الإخلاء
يكون إخلاء السبيل في مرحلتي التحقيق والمحاكمة واجباً أو جائزاً.
وقد أوجبه القانون في حالة ماكانت الجريمة محل الملاحقة من نوع الجنحة فإن كانت مخالفة كان ذلك من باب الأَوْلى. وأن يكون الحدّ الأقصى للعقوبة التي تستوجبها الحبس سنة. ويكون قد مضى خمسة أيام على التوقيف. كما يجب أن يكون للمدعى عليه موطن وأن لا يكون قد حكم عليه قبلاً بجناية. ولا بالحبس أكثر من ثلاثة أشهر من دون وقف التنفيذ.
ويكون جائزا باستدعاء إلى المرجع واضع اليد على الدعوى وهو قاضي التحقيق. أو قاضي الإحالة أو محكمة الموضوع أو محكمة النقض. تبعاً لتحول الدعوى من مرجع إلى آخر. إلا عند تخلي قاضي التحقيق أو قاضي الإحالة بقرار عدم اختصاص. فيبقى لهما النظر وبت تخلية السبيل إلى أن تفصل مسألة الاختصاص.
اجراءات إخلاء السبيل في مرحلتي التحقيق والمحاكمة
ينظر في الطلب ويبت في غرفة المذاكرة، بعد استطلاع رأي النيابة العامة. ويقبل طلب إخلاء السبيل أو يرفض، وليس الرفض مانعاً من معاودة الكرة بتقديم طلبات جديدة مرة بعد مرة. ويكون إخلاء السبيل المقبول بكفالة أو بغير كفالة. وتكون الكفالة نقداً. أو أسناداً على الدولة أو مضمونة من الدولة. كما يمكن أن تكون ضمانة مصرفية أو عقارية أو تجارية. باستثناء الكفالة أمام محكمتي الجنايات أو النقض، فيشترط فيها أن تكون نقدية أو مصرفية.
والهدف في الكفالة أنعا تضمن حضور المتهم أو المشتبه فيه إجراءات التحقيق والمحاكمة. ومثوله لتنفيذ الحكم إذا صدر بحقه. كما تضمن تأدية الرسوم والنفقات للمدعي الشخصي أو المتوجبة للدولة. والغرامات.
الطعن بالقرارات المتعلقة بطلبات الإخلاء
يختلف الأمر في هذه الحال باختلاف المرجع مصدر القرار:
فالقرار الذي يصدر عن قاضي التحقيق. يقبل الطعن بطريق الاستئناف. ومرجع النظر في هذا الاستئناف هو قاضي الإحالة. فإن كان قراراً بالرفض فمن حق المدعى عليه الموقوف استئنافه. وإن كان قراراً بإخلاء السبيل. فاستئنافه عائد إلى النيابة العامة وإلى المدعي الشخصي. ولا ينفذ إلا بعد انقضاء مهلة الاستئناف. والتصديق عليه من لدن قاضي الإحالة. ويحق للمدعى عليه أن يستأنف قراراً كهذا فيما يخص بدل الكفالة.
ومهلة الاستئناف 24 ساعة تبدأ، بحق النائب العام، من وصول الأوراق إلى قلمه للمشاهدة. وتبدأ، بحق المدعى عليه والمدعي الشخصي، من وقوع التبليغ.
ويملك قاضي الإحالة حق الفسخ أو التصديق. ويملك بالتالي تقرير إخلاء السبيل أو رفضه. كما يملك التصرف بالكفالة رفعاً أو تخفيضاً أو إلغاء كلياً.
والقرار الذي يصدره قاضي الإحالة ببت الاستئناف المرفوع إليه لا يقبل الطعن بأي طريق من طرق المراجعة. ولذا فإنه ينفذ من فوره. وكذا الحال عندما يقدم طلب الإخلاء إلى قاضي الإحالة. حين تكون الدعوى تحت يده. فإن قراره بالرفض أو القبول هو قرار قطعي. إذ ليس هو من القرارات القابلة للطعن بطريق النقض.
أما القرارات التي تصدر عن قاضي التحقيق العسكري. والمتعلقة بتخلية السبيل. فإن مرجع الطعن فيها هو محكمة النقض. ومهلة هذا الطعن خمسة أيام. ثم إن حق الطعن يقتصر على النيابة العامة وعلى المدعى عليه من دون المدعي الشخصي.
وتقبل قرارات المحاكم الجنحية صلحية كانت أو بدائية. الطعن بطريق الاستئناف أمام محكمة استئناف الجزاء. إما من جانب المدعى عليه الموقوف إن كان قراراً بالرفض. أو من جانب كل من النيابة العامة والمدعي الشخصي إن كان قراراً بإخلاء السبيل. وذلك بالمهلة نفسها التي سبق ذكرها وفصلت أحكامها عند البحث باستئناف قرارات قاضي التحقيق.
وكما أن قرارات قاضي الإحالة ببت طلب إخلاء سبيل مقدم إليه، أو ببت استئناف قرار صادر عن قاضي التحقيق مرفوع إليه، كلها قطعية، كذلك تصدر قطعيةً قرارات محكمة الاستئناف ببت طلبات الإخلاء السبيل التي تقدم إليها عندما تكون الدعوى مستأنفة وتحت يدها، أو ببت استئناف قرار صادر عن محكمة الصلح أو عن محكمة البداية يرفع إليها. ذلك أن مثل هذه القرارات التي تصدرها محكمة الاستئناف بشأن إخلاء سبيل ليست من الأحكام القابلة للطعن بطريق النقض.
أما القرارات التي يصدرها القاضي الفرد العسكري بشأن طلبات إخلاء السبيل فهي قطعية ولا تقبل الطعن، مع أن محكمته جنحية من جهة، وليست مرجعاً استئنافياً من جهة أخرى.
تبقى قرارات محاكم الجنايات (ومنها المحاكم العسكرية) الخاصة برفض طلبات إخلاء سبيل المتهمين الذين يحاكمون أمامها أو بقبولها، قرارات قطعيةً، لأنها كذلك ليست من الأحكام الصادرة بالدرجة الأخيرة والقابلة للطعن.
ومثلها أخيراً وبطبيعة الحال قرارات محكمة النقض، إذ إن هذه الأخيرة هي أعلى مرجع قضائي ولا مرجع فوقها، وهي تنظر في طلبات الإخلاء التي تقدم إليها في أثناء وضع يدها على الدعوى وبتها، إما بصدد الطعن بقرار اتهام صادر عن قاضي الإحالة أو بصدد الطعن بحكم محكمة.
هل يمكن معاودة التوقيف بعد إخلاء السبيل ؟
إن إخلاء السبيل في مرحلتي التحقيق والمحاكمة ليس نهائياً بل إن هذا الأخير يظل معرضاً لمعاودة توقيفه في الحالات التالية:
ـ إذا تبينت قبل إقفال التحقيق أسباب طارئة ومهمة تستلزم تجديد التوقيف، فإن قاضي التحقيق يصدر مذكرة بذلك حتى لو كان الإخلاء قد صدر عن قاضي الإحالة. على أنه يجب في هذه الحالة رفع الأوراق بلا إبطاء إلى قاضي الإحالة لتثبيت مذكرة التوقيف أو لإلغائها.
ـ إذا صدر قرار اتهام جنائي بحق المدعى عليه فيحال المتهم على محكمة الجنايات موقوفاً بموجب مذكرة قبض ولو كان مخلى السبيل بالكفالة.
ـ إذا تخلف عن تلبية دعوة للحضور، فلقاضي التحقيق أو للمحكمة إصدار مذكرة توقيف جديدة بحقه، والحق نفسه يعود لقاضي الإحالة عندما يقرر التوسع بالتحقيق ويتولاه بنفسه.
وليس في القانون ما يمنع في هذه الحالات من معاودة إخلاء سبيل الموقوف مرة أخرى.